منتديات مجموعة مدارس أولاد بلقاسم


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات مجموعة مدارس أولاد بلقاسم
منتديات مجموعة مدارس أولاد بلقاسم
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

التجديد؟ ومن يجدد؟

2 مشترك

اذهب الى الأسفل

التجديد؟ ومن يجدد؟ Empty التجديد؟ ومن يجدد؟

مُساهمة من طرف sadraoui1 الأربعاء 20 أكتوبر 2010 - 0:47

التجديد؟ ومن يجدد؟


أولا : تقديم الدراسة وأهميتها :
من الملاحظ اليوم أن الحديث عن التجديد يحتل مساحة كبيرة في الفكر الإسلامي المعاصر ويكاد يتم الاتفاق على ضرورته .ذلك أن سؤال التجديد يطرح اليوم نفسه أكثر من أي وقت مضى، ويلح طالبا جوابا مكتمل العناصر محدد المعالم، ليس لجدته، ولكن لتوالي ظروف تاريخية، وإكراهات واقعية جعلت منه مطلب الخاص والعام، ومبتغى الدارس المتخصص المفكر بل وحتى الإنسان العادي، إذ شاع مصلح التجديد حتى أضحى مادة هلامية يستعمله كل من أراد الحديث عن الإسلام وضرورة مواكبته للعصر، أضف إلى ذلك هذا التغير السريع للواقع الإسلامي بكل مكوناته، والذي لا يمكن اعتباره تغيرا ذاتيا بالضرورة، وإنما قد يكون ناتجا عن الاحتكاك والتدافع المتواصل والحتمي بثقافات وحضارات الآخر.هذا الاحتكاك الذي يتعاظم باستمرار بفعل تحول العالم إلى قرية صغيرة.
والعتبة التحضيرية لهذه المقاربة التحليلية تجعلنا نطرح أسئلة كبرى من قبيل : هل الدين في حاجة إلى تجديد ؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فما الذي ينبغي تجديده ؟ وما الذي يقبل التجديد وما الذي لا يقبله ؟ وإن تم تحديد ما يمكن تجديده، فكيف يمكن فعل ذلك ؟
وهكذا تتناسل الأسئلة إلى ما لا نهاية، مما يجعل من التجديد موضوعا إشكاليا بامتياز.وفي خضم الحديث عن هذا الموضوع، يمكن رصد اتجاهات مختلفة :
أ-اتجاه يؤمن أصحابه بأن دائرة التجديد المنشود ينبغي ألا تتجاوز البحث عن حلول إسلامية للأزمات والنوازل الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية فقط، وذلك عن طريق استخدام المنهجيات والوسائل والأدوات المعرفية والعلمية ذاتها، التي استخدمها السلف، في حل سائر الأزمات والنوازل التي تعاملوا معها، اقتناعا بكفاءة، وصلاحية تلك الوسائل والمنهجيات والأدوات .ويعتبرون التجديد فيما نظر فيه السلف ، وتجاوز ما توصلوا إليه لا يعدو أن يكون زيغا عن التراث وتدميرا لمحتوياته ومضامينه. ولذلك فإن النظر التجديدي ينبغي أن يستخدم منهجيات التفكير والوسائل العلمية ذاتها التي عني السلف باستخدامها في حل أزماتهم ونوازلهم.إذ أن هذه الوسائل فوق تاريخية ثابتة لا ينبغي مساسها إن بتغيير أو بمراجعة جذرية، ويرون أن السلف لم يترك للخلف شيئا ولهذا الاتجاه رأيه في التجديد وعلاقته بالابتداع، والحداثة والتحديث والعصرنة، وكل المصطلحات المتعلقة بالتجديد.
ب-واتجاه كان يلوذ بالقول بضرورة التجديد في سائر المستويات، وفي كل القضايا، والمسائل التي سبق للمتقدمين أن اجتهدوا فيها بناء على المعطيات العلمية، والمنهجية المتاحة، ووفق ظروفهم الفكرية والاجتماعية والسياسية السائدة آنذاك، فالتجديد لا يقتصر، في نظر هذه الفئة ،على ما لم يذكر عند السابقين، بل لابد للنظر التجديدي المنشود أن يقتحم مراجعة أو تطويرا أو تصحيحا أو تعديلا كل القضايا التي تناولها السابقون. ففي رأيهم، الفكر وآلياته ومنهجيات التفكير والابتكار والإبداع تشهد على مدار القرون والعصور تبدلا وتغيرا، لذلك فلا ثبات لها ولا استقرار، فلا ضرورة عقلية ولا منهجية في استخدام تلك المنهجيات والأدوات لأن ذلك يجعل المجدد رهينة لقراءات وتفسيرات نتجت ضمن سياقات تاريخية محددة كانت مشبعة بالصراع السياسي والاحتقان عند التعامل مع المختلف الفكري والمذهبي والديني، الأمر الذي أنتج قراءة متشددة وجدية للنص، وهو ما يغيب روح الإسلام العالمية المتسامحة، ويحد من قابلية النص للتعاطي مع متغيرات الزمان والمكان.
ج-واتجاه آخر يرى ضرورة فك الارتباط كليا بين الحضارة المادية والمنظومة الثقافية التقليدية السائدة في المجتمعات الإسلامية، لكون "الحضارة" هي في حقيقتها معطى بشريا غير مرتبط بدين أو ثقافة أو انتماء. وعليه، فهم ينظرون إلى التراث، كركام يقتضي إصلاحه وتطويره جهودا ضخمة واستثنائية تؤخر مشروعات النهضة .ثم لماذا هذا العبء الزائد، وثمار الحضارة الغربية ناضجة لا تحتاج منا إلا القطاف؟ وما نفعل بهذا التاريخ، وأمة مثل أمريكا، تحكم العالم رغم أنها أمة بلا تاريخ ؟
د-ويرى آخرون أنهم يمثلون الوسطية، يرفضون جمود الأولين و جحود الآخرين، يلتمسون الحكمة من أي دعاء خرجت أو يقبلون التجديد، بل ويدعون إليه، وينادون به على أن يكون تجديدا في ظل الأصالة الإسلامية، يفرق بين ما يجوز اقتباسه، وما لا يجوز، وبين ما يلائم وما لا يلائم .
وهكذا يتضح اختلاف دارسي الدين عموما، والإسلام خصوصا، وقضايا التجديد فيه بشكل أخص، حول مناهج البحث في قضاياه. اختلاف تغذية المنطلقات الفكرية أحيانا، والأطروحات الإديولوجية في أحيان كثيرة. فمن داع إلى المنهجية الفلسفية في دراسة الدين "...لإعادة بناء التاريخ بصورة فلسفية (...) أو إعادة بناء الوعي بصورة تاريخية" إلى محذر من أن هذا المنهج مستورد ،منبه إلى خطورة "...استعمال المناهج المستوردة في دراسة تاريخنا ومجتمعنا دون النظر إلى طبيعته وحاجته" ومعتبر ذلك خطأ منهجيا في منتهى الخطورة. ويرى آخر أن "...الخير كل الخير في المنهج المعياري(...)الذي يستعين بعلم التاريخ وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد وكل ما توصلت إليه المعرفة الإنسانية من نتائج" . واعتماد العلوم الإنسانية لا يرضي فريقا آخر يرى "...أن العلوم الشرعية أكثر إنسانية من العلوم الإنسانية" لأنها تدرس الإنسان فردا وجماعة من أجل مصلحته وتطوير حياته نحو الأفضل ولأنها "...رغم أنها إنسانية في مقاصدها فهي ربانية في منطلقاتها، وهذا سر تميزها وسبب نجاتها مما تتخبط فيه العلوم الإنسانية من عوائق منهجية" .
إن التنظير المنهجي للتجديد، مفهوما وآليات ومجالات ينبغي أن يغدو اليوم، كما أسلفنا، الهم الشاغل لحركات الإصلاح والتجديد المعاصرة، وذلك قصد الصدور عن رأي سديد في توجيه ما تزخر به حياة المسلمين اليومية من مستجدات، ونوازل اقتصادية واجتماعية وسياسية وفكرية، وبغية تقديم بلسم شاف لجملة من صنوف الأدواء وأشكال الأزمات والنكبات التي تعاني منها كثير من المجتمعات الإنسانية بشكل عام، ثم لتحويل "...المجتمع الإسلامي من حالة لا تتفق مع الإسلام روحا أو تشريعا أو قيما إلى حالة من التنسيق والانسجام بين جميع مقومات الإسلام عقيدة وشريعة وقيما ومقاصد وتوجهات فكرية وحضارية" ، ولا يمكن إنجاز ذلك كله في غياب "...حملة أركيولوجية لتشريح التراث استقراء وتحقيقا، ودراسة قبل أن نصدر الأحكام" تتم من خلال فكر اجتهادي قويم مستوعب قادر على فهم المقاصد العليا الثاوية بين جنبات نصوص الوحي كتابا وسنة، وعلى حسن فهم للواقع المعاش وما يموج فيه من أحداث، وتطورات وأزمات ونوازل، مع تيسير سبل العمل بذلك كله، لأن كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها لا يدل على استحسانه دليل شرعي كما قال الشاطبي. ففقه الدين وفقه الواقع وفقد تنزيل أحكام الدين على الواقع، ثلاثة أسس تجديدية لا مناص من تملكها وإتقانها لكل مشتغل بالتجديد، وفي كل العصور
ثانيا :دراسة المفهوم :
إن البحث المصطلحي يتوخى "البحث في اتجاه تأصيل المصطلحات العلمية المتداولة في الفكر الإسلامي المعاصر" لأن "الألفاظ تمتلك دلالات مختلفة حسب إديولوجيا الذين يستعملونها" ، ولذلك سندرس لفظ "التجديد" لغة، واصطلاحا، أي المعنى الذي اتفق علماء المسلمين على استعماله له.
فباستقراء معاجم اللغة تبين أن صيغة "تجديد" مشتقة من جدد أو أجَدَّ. ففي لسان العرب أجدَّ الطريق صار جديدا، وجديد الأرض وجهها، وأجدَّ القوم : علوا جديد الأرض وجدَّ الثوب : صار جديدا، وهو نقيض الخلق "جددت الشيء إذا قطعته على وجه الإصلاح، وثوب جديد أصله المقطوع، ثم جُعل لكل ما أحدث إنشاؤه" ، وهو نقيض الخلق، وقوبل الجديد بالخلق لما كان المقصود بالجديد، القريب العهد بالقطع من الثوب، ومنه قيل الليل والنهار : الجديدان وفي لسان العرب أجدَّ : بمعنى حقق، وجدَّ به الأمر إذا أجهد ، والجديد ما لا عهد لك به . لذلك وصف الموت بالجديد . وتجدَّد الضرع ذهب لبنه وانقطع ، والجديد هو الحظيظ ، أو الرجل العظيم الحظ، والجدد ما ظهر من الأرض ، وكل جديد قشيب ، وبعض العرب تقول في جمع جديد : جَدَد وجدّ ، أي منتخلة، متخيرة والجديد الواضح ، والجادة هي الطريق، وجديد الأرض وجهها، وعند الخليل : الجدة مصدر الجديد ويذهب إلى نفس المعاني التي ذهب إليها صاحب اللسان، والقاموس المحيط.
وباستقراء هذه المعاني اللغوية نجدها تدور حول معان أساسية تهم الموضوع الذي نحن بصدده.
فالجديد نقيض البالي، والجديد ما لا عهد للناس به، ويحمل الجديد معنى القطع مع حالة سابقة والجديد مختار منتخل.
والمصطلح قد يكون ذا "مضمون محسوس لا يبعث على شبهة، وقد يكون ملتبسا يحتمل التأويل، وهو يضيع ويتداول، وينقل وبتوارث، وقد يتحول مفهومه ويتسع، يتجدد أو يتقادم أو يندثر" ، فالمصطلح كائن حي يعيش في الزمن، وهكذا فقد اتخذ تعريفا اصطلاحيا من دائرة الإسلام، مفهوما شرعيا كان عليه الناس منذ عهد النبي "ص" والصحابة (ض) من بعده والتابعين وتابعيهم فيما توالى بعدهم من القرون : "فالمراد من تجديد دين الأمة : إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة، والأمر بمقتضياتهما وإماتة ما ظهر من البدع والمحدثات" ، واستعمل تجديد الدين دون تمييز بحرف الجر "في"، لعدم ورود تغيير الدين على الخواطر آنذاك، والمراد منه أيضا، "...أن يبين المجدد السنة من البدعة، ويؤيد أهل العلم والاتباع، ويذل أهل الضلال والابتداع (..)" .
والمجدد لدين الله يبعث في الأمة المؤمنة بهذا الدين روحا جديدة تستيقظ بها من سباتها، وتقوى بها من ضعفها "...فتعيد سيرة سلفها الصالح ، من التزام الصراط المستقيم، والاحتكام إلى دين الله عز وجل، وجعله رائدا في الحياة، يسدد خطاها، ويحفظ عليها هداها، ويحسن لها الجمع بين الدين الحق والحياة السعيدة" .
وفي المعنى الاصطلاحي نلمس أن اللفظ يضم معنى التحديث والاستمرارية في آن واحد، أي لا يوجد قطع بات بين ما هو جديد وما هو قديم، بل يضم معنى إحياء القديم على صورته، وهو معنى يؤكده قوله تعالى : ٭ وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً [الإسراء : 49]
والتجديد في التراث الإسلامي عموما كان يكاد يطابق مفهوم الاجتهاد بالمعنى الفقهي ، ولكنه وبدءا من العشرينيات من القرن الماضي، تحول من النص إلى الخطاب، واكتسب زخما جديدا بعد خفوت وهج مدرسة الإصلاح "وبعد أحداث11 شتنبر أصبح المصطلح ملتبسا بمطالب الإصلاح والتغيير التي تنهال على الأمة من الشرق والغرب" .
ولتأكيد أصالة التجديد في الأمة، سوف ننطلق من تأصيل المصطلح والممارسة من القرآن، أولا ، ثم من السنة ثانيا.
ثالثا : تأصيل التجديد من القرآن الكريم والسنة المطهرة
أ) من القرآن :
القرآن الكريم هو المصدر الأول من مصادر التشريع الإسلامي، وهو الشاهد الأساس على إمكان التجديد في الدين، وإن كان استقراء آياته لا يسعفنا بهذا اللفظ بحرفه ومعناه، إذ لم ترد فيه كلمة "جديد" إلا في سياق تأكيد الله سبحانه وتعالى على حقيقة البعث ، وقدرته عليه رغم إنكار الكفار وتكذيبهم لهذا الأمر في قوله تعالى :
٭وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ [الرعد : 5].
”ﷲ»“
٭أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [إبراهيم : 19]
٭ و َقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ [السجدة : 10]
٭وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ : 7]
٭أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [قـ : 15]
إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [فاطر : 16]
ويقر تعالى ، في الآيتين الأخيرتين ،قدرته على الإحياء وبعث الخلق من جديد، ولا يعني عدم وجود كلمة التجديد صريحة في القرآن غياب ما يؤصل للدعوة إلى التجديد منه ، فها نحن نجد الذم والتحقير لمن غيبوا عقولهم وانخرطوا في التقليد الذي هو عكس التجديد في معناه وذلك في قوله تعالى : وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ [البقرة : 170] وقوة ألفاظ هذه الآية تفيد إبطال التقليد الأعمى .ونظيرتها قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ [المائدة : 104].وقد وردت في القرآن الكريم اثنتا عشر آية في نفس المعنى تذم التقليد الذي يغيب العقل. والتقليد في اللغة مأخوذ من قلادة البعير (....) وهو ليس طريقا للعلم ولا موصلا له في الأصول ولا في الفروع (....) وحقيقته قبول بلا حجة .
و من خلال الآيات السابقة، يتبين أن التقليد مرض يعطل العقل عن إدراك الواضحات، واتباع الهدى، ولا يجد صاحبه من حجة لرفض الجديد النافع إلا التمسك بما ألفه من قديم وما وجد عليه السابقين، وفي قوله تعالى : وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [الزخرف: 23]، يحدد الله تعالى الفئة التي تقود هذا الرفض: "مترفوها" أي "...أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها وقادة الشرفيها" "ورؤساؤها في الضلالة" "وأكابر مجرميها وعظماؤها" وهم المستفيدون في الحقيقة من الوضع القائم، الذين يقاومون رياح كل تغيير لأنها ستضرب مصالحهم في الصميم.
ومن دلائل القرآن على التجديد قوله تعالى : لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد : 11]. فسره الطبري بأن التغيير يكون للنعمة والعافية بإزالتها عنهم وإهلاكهم ما لم يغيروا ما بأنفسهم من ظلم بعضهم بعضا واعتداء بعضهم على بعض ، لقد جعل الله سبحانه وتعالى إرادة الإنسان هي مفتاح التغيير والإصلاح ، وبالإضافة إلى هذه التبعة الثقيلة، يحمل معنى الآية، دليل التكريم لهذا المخلوق الذي اقتضت مشيئة الله، أن يكون، هو بعمله، أداة التنفيذ لمشيئة الله فيه .
وتطالعنا في كتاب الله آيات أخرى تتطرق لزاوية أخرى من زوايا التجديد، وهي الإصلاح، فكثيرا ما تستعمل هذه الكلمة في اللغة القديمة أو الأدبيات الجديدة كمرادف للتجديد، وإن كان بينهما تمايز واضح، فقد وردت بهذه الصيغة في تسعة مواضع من كتاب الله تعالى تتقارب في معانيها، ولكن تبقى الآية التي في سورة الأعراف هي الأقرب إلى موضوع التجديد.قال تعالى: َ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [الأعراف : 85] ، "وأصلح الشيء بعد إفساده : أقامه . فالله تعالى "...ينهى عن الإفساد في الأرض بالهوى، وقد أصلحها الله بالشريعة" وهو نهى "...عن كل فساد قل أو كثر بعد صلاح قل أو كثر" "وما أضر الإفساد بعد الصلاح! فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ثم وقع الإفساد بعد ذلك، كان أضر ما يكون على العباد" .
هذا الإصلاح الذي جعل الله مدارَ القرآن عليه ،وكذلك رسالات الرسل، حقيقةٌ يقررها نبي الله هود حين قال لقومه : قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود : 88]
ويستخلص من ذلك ابن كثير "...أن الأمر بالمعروف وفعله لا يسقط أحدهما بترك الآخر" هذا "...الإصلاح العام للحياة والمجتمع، الذي يعود صلاحه بالخير على كل فرد وكل جماعة فيه" ، ولعل أكبر دليل يمكن أن نؤصل به للاجتهاد والتجديد من القرآن الكريم هو قوله تعالى : هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [آل عمران : 7]. "ومن حكمة إنزال هذه المتشابهات أنها تتسع لأكثر من فهم وأكثر من تفسير، وبذلك يتسع دين الله للمختلفين وإن خطّأ بعضهم بعضا، ولكن لا يكفر بعضهم بعضا" ، فمجال الاجتهاد والتجديد هو "كل مسألة شرعية ليس فيها دليل قطعي الثبوت [أو] قطعي الدلالة، سواء كانت من المسائل الأصلية الاعتقادية أم من المسائل الفرعية العملية" ، فلا شك أن الاجتهاد لا يكون إلا بوجود النص، لأن القول بغياب النص ادعاء بوجود النقص في الإسلام ،ونحن نعلم أن الله تعالى قال : وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام : 38] وهذا يناقض ما قاله كمال أتاتورك ،لما ألغى الخلافة ،من أن الدين ثابت والحياة متغيرة فكيف نحكم على المتغير بشيء ثابت؟ إذ أنه لا الدين كله ثابت، ولا الحياة كلها متغيرة .وقد يكون المتغير مما لم ينص الشارع صراحة على حكمه،أو ما يسميه يوسف القرضاوي "منطقة العفو التشريعي" والذي أصلنا للتجديد لمثله من القرآن.وبما أن السنة هي الشارحة المفسرة المفصلة المقررة المؤكدة لما في القرآن فلا مندوحة لنا عن التأصيل للتجديد من سنة رسول الله (ص).
ب) تأصيل التجديد من السنة :
كلما أراد باحث في التجديد، قديما أو حديثا، التأصيل له من السنة إلا وأورد حديث المجدد على رأس المائة، والذي اشتهر بالخصوص عند أبي داوود بالنص التالي متنا وسندا :
حدثنا سليمان بن داود المهري، أخبرنا وهب، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن شرحيل بن يزيد المعافري عن أبي علقمة عن أبي هريرة فيما أعلم، عن رسول الله (ص) قال : "ثم أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" ، ولكن أبا داود لم ينفرد به، بل أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة أيضا بسند رجاله ثقات، وأخرجه الحاكم من حديث ابن وهب وصححه ورواه عثمان بن سعيد المقرئ الداني في كتاب السنن وكذا ابن شيرويه والمزي في تهذيب الكمال وأورده الخطيب البغدادي في كتابه "تاريخ بغداد" .
وقد روي هذا الحديث أساسا عن صاحب المستدرك على الصحيحين وفي سنن أبي داود . وبمقارنة سنده في كلا الموضعين، نجد أنه وإن كان من حدثا بهما مختلفين (أبو العباس محمد بن يعقوب، عن الربيع بن سليمان بن كامل المرادي) عند الحاكم و(سليمان بن داود المهري) عند أبي داود. فكلاهما حدّث عن ابن وهب، وأكد الطبراني أن هذا الحديث لا يروى عن رسول الله(ص) إلا بهذا الإسناد "تفرد به ابن وهب" ، والأمر الثاني هو أن هذا الحديث تفرد به عبد الرحمن بن صخر المعروف بأبي هريرة (ض)، وقد سكت عنه المنذري، وقال السيوطي في مرقاة الصعود : اتفق الحفاظ على تصحيحه، منهم الحاكم في المستدرك، والبيهقي في المدخل، وممن نص على صحته من المتأخرين، الحافظ بن حجر (....) وقال الزين العراقي وغيره : سنده صحيح ، وقد اشتهر هذا الحديث بين علماء المسلمين وعامتهم، وهذا دليل آخر على صحته، وهو مروي من وجهين، من وجه متصل ومن وجه معضل ولكن ذلك لا يقال من قبل الرأي إنما هو شأن النبوة فتعين كونه مرفوعا إلى النبي، أضف إلى ذلك أن رجاله هم رجال الصحيح، مما يجعل هذا الحديث من الأحاديث القطعية الثبوت عنه صلى الله عليه وسلم، وهو الأصل في الموضوع الذي نحن بصدده، وإن كانت هناك أحاديث أخرى وردت بروايات أخرى حول ظهور المجدد وإن لم يكن مشروطا برأس القرن، كالذي يكون آخر الزمان مثل نزول عيسى ابن مريم عقب ظهور الدجال. ويخبرنا رسول الله (ص) - كما جاء في الأخبار- أنه سيظهر في آخر الزمان المهدي المنتظر والذي سيملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا "...والذي هو حقيقة شرعية عند أهل السنة، وقد ذهب فيه الشيعة مذاهب، وبنوا على خبره نظريات مذهبية خاطئة في كيفية إمامته للمسلمين ، ولكن لأمر المهدي أصل في الحديث، فقد روى صاحب المستدرك فيما أخرجه عن أبي سعيد الخدري، قال رسول الله (ص) : "ثم لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلما وجورا وعدوانا ثم يخرج من أهل بيتي من يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وعدوانا" وقال فيه : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وفي حديث آخر له قال (ص) لما ذكر المهدي : "هو من ولد فاطمة" وللحاكم في كتاب الفتن أحاديث أخرى صحيحة في نفس المعنى وجميعها عن أبي سعيد الخدري (ض)، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده عن جماعة عن أبي سعيد الخذري وأخرجه نعيم بن حماد في الفتن .
ولنعد الآن إلى متن حديث التجديد على رأس المائة لأهميته بالنسبة إلى ما نحن بصدده من تأصيل للتجديد من السنة، وسنحاول دراسته من خلال الحديث عن أوصاف هذا المجدد وسماته، واختلاف السلف في تحديد إذا ما كان فردا أم جماعة.
هذا عن سنته القولية (ص)، أما سنته العملية، فزاخرة بالأمثلة على تجديداته، واجتهاداته التي صدرت عنه، بصفته البشرية، وإن كان مؤيدا بالوحي يتعقب أخطاءه فيصلحها حتى لا تقتدي به الأمة في أية نقيصة، فها هو في غزوة بدر يقر الصحابي الجليل الحباب ابن المنذر بن عمرو بن الجموح على اجتهاده فيغير موقعه من الماء ، وقيامه كقائد يشاور أصحابه بأمر جديد لم تعهده العرب في حروبها قبيل غزوة الأحزاب، حيث حفر الخندق لرأي رآه سلمان الفارسي، فكان ذلك سببا ماديا للنصر ، ومراسلته للملوك وما أحدثت من وقع في النفوس ، أضف إلى ذلك سنه لدستور مكتوب لدى دخوله المدينة لتنظيم العلاقات بين مكونات المجتمع الجديد وغيرها من المواقف التي لم يكن للناس بها عهد ولم ينزل بها وحي. وتسجل في هذه المواقف تساؤلات الصحابة قبل كل اقتراح جديد "أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله لا نملك أن نتقدم عنه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟" دليلا على وعيهم بحقيقة تعدد مصادر أوامر النبي بين ما يصدر عنه كنبي يوحى إليه وبين اجتهاداته المرتبطة بالواقع وبمسؤوليته كرجل دولة.
رابعا : هل المجدد فرد أم جماعة ؟
ولنعد الآن إلى متن حديث "المجدد على رأس المائة" لمركزيته، ولاستناد القدماء والمحدثين من المفكرين عليه في التأصيل للتجديد، ولاستشراف أحوال المجددين. ولسوف نتساءل، كما تساءل علماء السلف، هل المجدد فرد أم جماعة ؟
لم تكن صحة الحديث المذكور محل خلاف بين المسلمين، ولكن صيغته أثارت كثيرا من الاختلاف حول ما جاء فيه. وتطرق هذا الخلاف إلى: من يجدد ؟ وماذا يجدد ؟ ومتى يبعث ؟ وهو خلاف حصل بين أهل السنة فيما بينهم، وبين أهل السنة والشيعة في مقام آخر.
فقد اختُلف في "رأس المائة" بين أولها أو وسطها أو آخرها، فمن ذهب إلى أنه آخرها "الطيبي والمناوي والمجي في خلاصة الأثر والسيوطي وابن الأثير والزهري والإمام احمد وقال غيرهم بالاختيار بين الأول والآخر وهم القلة. ويرجع الاختلاف فيما بينهم إلى تباين وجهات نظرهم حول "قيد الرأس" هل هو اتفاقي أم احترازي؟ وقال الكرماني : "قد كان قبيل كل مائة أيضا من يصحح، ويقوم بأمر الدين، وإنما المراد من انقضت المدة وهو حي عالم مشار إليه "، ونرى أن مسألة عدم ظهور المراد بالرأس، وهو اسم يحتمل لغة بداية السنة، ووسطها ونهايتها، لأنه قد يبدأ عد السنة من موته (ص) أو بعثته أو هجرته، هذا الإبهام فيه حكمة بالغة، وذلك أنها مخفاة قصدا حتى يجتهد المجتهدون من كل عمر وفي كل عصر لينالوا شرف المجددية، تماما كما أُخفيت ساعة الإجابة يوم الجمعة، وليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، وليس المحدد الزمني هو المعيار الوحيد لزمن ظهور المجدد، بل اقتضاء الحال والضرورة "...إذا قل العلم، وكثر الجهل والبدعة(...) ولانخزام العلماء (....) واندراس السنن" . وعليه، فدوره ينحصر في "...إحياء السنن ونشرها، ونصر صاحبها، وإماتة البدع ومحدثات الأمور ومحوها، وكسر أهلها باللسان، أو تصنيف الكتب والتدريس" ، فمعنى المجدد هنا يأخذ مغزى حركيا، وقد يشترك في كثير من صفاته بالمجتهد اجتهادا مطلقا، إلا أن هذا الأخير ليس مطالبا بالفعل في الواقع مغيرا، ولا يحمل الناس على ما يعتقد، لذلك لم يَعدَّ ابن حجر الشافعيَّ من المجددين، رغم سعة علمه وعلو كعبه في علوم الحديث والفقه، لا لشيء إلا لأنه "لم يقم بأمر الجهاد والحكم بالعدل" ، فمن لم يكن عالما بالعلوم الشرعية الظاهرة والباطنة، ناصرا للسنة، قامعا للبدعة، وأن يعم علمه أهل زمانه لا يكون مجددا البتة وإن كان عالما بالعلوم، مشهورا بين الناس مرجعا لهم . وقد لخص جلال الدين السيوطي كل ما قيل في أرجوزة أوردها في "كتاب التنبئة فيمن يبعث الله على رأس المائة" نختار منها :
لقد أتــى في خبر مشتـهر رواه كل حافـظ معتـبـر
بأنـه في رأس كل مائــة يبعث ربنا لهذه الأمــة
منـّا عليـها عالـما يجـدد دين الهدى لأنه مجهتــد
طاعة في ذلك أن تمضي المائة وهو في حياته بين الفئـة
يشـار بالعـلم إلـى مقـامـه وينصر السنة في كلامـه
وأن يكـون جامعـا لكل فـن وأن يعم علمه أهل الزمـن
وأن يكون في حديث قد روى من أهل وقد قــوى
ونظرا لصعوبة اجتماع كل الأوصاف المذكورة في شخص واحد، ولأن كلمة "من" هي لجنس العاقل سواء كان فردا أم جماعة ، فقد ذهب أغلب العلماء المعتبرين إلى أن المجدد جماعة.
ونعتقد أن المجددين نتيجة لتيار عام في الأمة "لا يظهر إلا نتيجة لتفاعل قوي ومخاض طويل قد يمتد قرنا أو نحوه" و تتفاعل عناصر الواقع وسنن التاريخ في تفاعلها مع منطلقات الوحي لتفرز مفكرين يستطيعون استيعاب المنطلقات التأسيسية و قدرتها على الفعل في واقع الناس ، استلهاما من النموذج التأسيسي للأسس التي شكلت عوامل نجاحه، وتشخيصا للواقع السائر، واستشرافا لمستقبل يتأسس على الرؤية القرآنية للأنفس و الآفاق .
فلا يمكن بحال الحديث عن شخص بعينه بل هو تيار تتجدد من خلاله دواليب المجتمع وبنياته وتلك سنة ماضية في التاريخ والمجتمع.وهذه اقناعة سبق إليها علماء كثر عبر التاريخ ،وإن لم يشكل رأيهم التيار الغالب في المسألة، ففي سياق شرحه لحديث "لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون" قال ابن حجر :" إن بعض الأئمة قال بأنه : لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط، بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة" لأن المستجدات كثيرة، وما يحتاج إلى إصلاح كثير ومتنوع و لا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، ولكنه يعود، فيقر بما اتفق عليه كثير من علماء الأمة من اعتبار عمر بن عبد العزيز وأحمد بن حنبل مجددين لاعتقاده اجتماع كل أوصاف المجدد فيهما، وقد أوردنا نفيه لذلك عن الإمام الشافعي، ويقول فيمن بعدهم : "...فعلى ذلك، كل من كان متصفا بشيء من ذلك ثَمَّ رأس المائة هو المراد سواء تعدد أو لا" . ووقف صاحب "سير أعلام النبلاء" عدد المجدد على شرح لفظة "من" أتدل على فرد أم جماعة ؟ ورجح الاختيار الثاني .
وقد اعتمد آخرون على وجه آخر للحديث يذكر لفظة "فردا" عوض "من" فجعلوا من المجدد فردا، منهم ابن حزام في "تهذيب الأسماء" ، وابن الصلاح ، وابن حنبل لما صح عنده من حديث رسول الله (ص) : "إن الله يمن على أهل دينه في رأس كل مائة سنة برجل من أهل بيتي يبين لهم أمر دينهم" وهو الحديث الذي يشير إليه السيوطي في قوله :
وكونه فـردا هـو المشهـور قد نطق الحديث والجمهور
ومن قالوا بأنه فرد أوردوا أسماء من اختاروهم وفق الشروط التي أوردناها آنفا ولكنا نجدهم اتفقوا على أسماء عديدة لخصها السيوطي بقوله :
فكان ثم المائة الأولى عمر خليفة العدل بإجماع وقر
والشافعي كان ثـم الثانية لما له من العلوم السامية
وابن سريج ثالث الأئـمة والأشعري عـدة من أمة
والباقلانـي رابع أو سهل أو الأسفراني خَلف قد حكوا
والخامس الحبر هـو الغزالي وعدُّه ما فيه مـن جـدال
والسادس الفخر الإمام الرازي والرافعـي مثـله يـوازي
وباستقراء أسماء من عدهم سابقو السيوطي أو اللاحقون عليه من العلماء، تجد أنه أدرج الرأي الغالب في هؤلاء.
فمثلا الإمام أحمد ابن حنبل عد عمرا بن عبد العزيز في المائة الأولى، والشافعي في الثانية ، وابن الصلاح مثله وزاد الغزالي في الخامسة ، واتفق معه الذهبي على كل الأسماء .
أما من قالوا بتعدد المجددين فجعلوا مع كل اسم أسماء أخرى، من حقول معرفية متشابهة أو مختلفة، ولعل أبرزهم هم الذين أوردهم الذهبي : "فيكون على رأس المائة الأولى عمر بن عبد العزيز خليفة الوقت، والقاسم بن محمد والحسن البصري وابن سيرين، وأبو قلابة، وعلى رأس المائتين مع الشافعي يزيد بن هارون، وأبو داود الطيالسي، وأشهب الفقيه وعده، وعلى رأس الثلاث مائة مع ابن سريج أبو عبد الرحمن الشافعي والحسن بن سفيان وطائفة ، ويورد صاحب عون المعبود طائفة أخرى تتشابه أو تختلف مع ما سبق .
والحق أن "كل قوم ادعوا في إمامهم أنه المراد بهذا الحديث" ،وتجدهم يستبعدون من خالف ما هم عليه، حتى أنا لنجد بعضهم قد ادعى ذلك لنفسه، مثل السيوطي :
وهذه تاسعة المئين قد أتت ولا يخلف ما الهادي وعد
وقد رجوت أنني المجدد فيها ففضل الله ليس يجحد
ويعتمد الشيعة الأحاديث التي أوردناها بشأن المهدي، ليجعلوا المجدد من آل البيت الذين يتشيعون لهم، ولكن وإن اختلفت الأفهام والتأويلات "فالنصوص التي تدور حولها قضية المهدية والأئمة المجددين متقاربة إن لم تكن موحدة هنا وهناك" .
ويلاحظ أن الأئمة الذين عدهم الناس مجددين، ليس فيهم إلا واحد من أئمة السياسة والحكم، فهل يرجع ذلك لانحسار دور الساسة في التجديد أمام لتعاظم دور العلماء ؟ أم لأنه لم يظهر سواه إمام عدل وحق في الزمن السابق ؟
ويلاحظ أيضا تلك المركزية المشرقية في تحديد المجددين مع إغفال تام للمغاربة الذين ظهر منهم عبر التاريخ العديد ممن اتصفوا بسمات المجددين،لكن تحقيق ذلك يحتاج إلى بحث مستقل يستقرئ هؤلاء .
خلاصة القول أنه "ليس لمن يوصف بالتجديد رتبة أو مزية على كل من يوصف بذلك" لأن الخلفاء الراشدين خير من عمر بن عبد العزيز، ولم يُختاروا، ولمالك فضل وعلم ولم يختر، "ولكن الوصف بالتجديد مجرد اصطلاح يخضع لظروف زمنية وموضوعية خاصة" ولا تجديد لأحدهم إلا ببعث الروح في صدور المؤمنين بعد خمول انتابهم في دينهم، فيحفزهم للجهاد، وللنشاط والعمل المثمر الجاد، أو بلم فرقة وشتات الأمة وتوحيد الصفوف بعد الفرقة والتشرذم، أو بنشر قيم الطهر والعفاف بعد شيوع الرذيلة والفجور، أو بتصحيح للعقائد بعد استشراء البدعة والدجل .ولعمري لا يمكن لفرد واحد من أهل العلم أو السياسة أن ينوء بهذا العبء منفردا لذلك فهذا الوصف "يعم حملة العلم من كل طائفة، وكل صنف من أصناف العلماء، من مفسرين ومحدثين وفقهاء ونحاة ولغويين وغير ذلك من الأصناف" .
هذا وقد حان الوقت ليتم التأكيد على أن المجددين و الحركة التجديدية عموما ينبغي أن تمتلك القدرة على تشخيص أدواء الواقع بكل مكوناته ثم استشراف الواقع المتوقع و إعداد الاستراتيجية الوقائية له من كل الأدواء .وينبغي أن تتكامل في هذا التيار كل الدوائر و التخصصات مع الانفتاح على كل النماذج السابقة لاستلهام مقومات نجاحها دون الجمود عليها و كذا استغلال كل ما توصلت إليه البشرية مما يمثل المشترك الإنساني الفطري سواء كان علما ،فكرا ،أو إنتاجا ماديا

المرجو إبداء رأيكم حول الموضوع


sadraoui1
عضو نشيط
عضو نشيط

عدد المساهمات : 66
نقاط : 48578
السٌّمعَة : 16
تاريخ التسجيل : 16/07/2009
العمر : 46

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

التجديد؟ ومن يجدد؟ Empty رد: التجديد؟ ومن يجدد؟

مُساهمة من طرف sadraoui الجمعة 26 نوفمبر 2010 - 10:28

merci cher frere

sadraoui
مدير عام
مدير عام

عدد المساهمات : 254
نقاط : 49920
السٌّمعَة : 5
تاريخ التسجيل : 24/06/2009

https://belkassem.ahlamontada.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى